الرئيسية من نحن النسخة الكاملة
علي الفقيه
بين المكحل وحنتوس.. زفرات بركان كامن!
الجمعة 4 يوليو 2025 الساعة 17:10

حين ضاق الشيخ صالح حنتوس ذرعاً بمضايقات الحوثيين الرامية لإخراسه وإذلاله واعتداءاتهم المتكررة عليه على خلفية مواصلة نشاطه في تعليم القرآن لأبناء منطقته، قرر أن يواجه على أن يتعرض للإهانة والإذلال في سجونهم وقد خرجوا بحملة لاقتحام منزله والقبض عليه بالقوة، رغم إدراكه يقيناً ودون أدنى شك أن حياته هي ثمن هذا القرار.

في هذه اللحظة بدا للرجل، وهو يدلف العقد الثامن من العمر، أن النصر الوحيد المتاح تحقيقه هو أن تختار الطريقة التي تموت بها لتفوت على خصمك أن يتلذذ بفرض مقاس وشكل الحياة التي ينبغي عليك أن تعيشها. التقط روحه وقذفها في وجوههم ناراً تحرق زيفهم وتضيء للأجيال طريق الحرية. ولسان حاله يردد "قاوم البغي ما استطعت أو مت وأنت تحاول".

قد لا تسعفه الأحرف لفلسفة الأمر على هذا النحو لكنه كان أقدر على الفعل، ولعله بذلك أحيا هذه المعاني في نفوس كثيرين أكثر مما يمكن لعشرات الخطب والمقالات فعله. 

وأنا أتابع تفاصيل القصة كان يحضر في ذهني بطل إب "المكحل" وقصته الأسطورية، شاب عادي غير مسيس لم يحظ بقدر جيد من التعليم، يمكن القول إنه عينة عشوائية من وسط المجتمع، لا هو قائد ولا وجاهة ولا مثقف ولا يطمح في أكثر من حياة هادئة لرب أسرة مستور الحال لكن معدنه صافي ونفسه تأبى أن يعيش حياة الذل.

حاول حمدي المكحل (شاب ثلاثيني من سكان مدينة إب القديمة) كثيراً أن يتأقلم مع الوضع ويغمض عينيه على مشاهد العنجهية والإذلال التي يمارسها عناصر مليشيا الحوثي كل يوم ضد الناس في محيطه، كان يلاحظ بلطجة المدججين بالسلاح وفكرة التميز على من سواهم، وكمواطن بسيط يكتوي بإصرار الحوثية كمنظومة على تجويع الناس وقطع أرزاقهم مقابل شعارات وعنتريات فارغة تستخدمها لتخدير الضحايا. حينها رأى أن حياة من هذا النوع لا تستحق أن تعاش فقاومهم بالسخرية والتهكم وتحداهم مع أنه يعلم النهاية لشخص أعزل أمام منظومة همجية. واجههم حسب استطاعته لكن تسنى لهم أن يقبضوا عليه ويودعوه السجن ومع ذلك تمت تصفيته بطريقة درامية تخبطوا كثيراً في محاولة إخراجها بين رواية الانتحار وبين مقتله أثناء محاولة الهرب، لكنهم انكشفوا أمام المجتمع أنهم قد صفوا شخصاً أعزل داخل سجونهم وتحول إلى أيقونة يخيفهم إسمه، وترعبهم مجرد شخبطات رسمة على جدار يرون فيها ملامحه.

السطوة هنا ليست لذات الشخص ومكانته في المجتمع، متعلماً كان أو أمياً، سياسياً أو من العامة، بل بما جسده من فكرة المقاومة والرفض خاصة عندما يدرك خصومه أن الفعل هو ابن لإرادة ذاتية خالصة، وأن حديثهم عن ارتباطات للشخص بجهات معادية هو مجرد أكاذيب يحاولون بها التغطية على جريمتهم.

ولمدينة إب القديمة ذاتها قصة سابقة كان بطلها "بشير شحرة" الذي قاوم عناصر المليشيا وأثخن فيهم قبل أن يقدم حياته ثمناً لموقفه الرافض والمقاوم عن رضا وإدراك تام لنهاية هذه المواجهة.


يعلم الحوثة من أعماقهم أنهم طارئون على الحكم، وأنه ما من سبيل لاستمرار هيمنتهم بالقوة وإن غلفوها بألف حديث وآية، وبالتالي ترعبهم كل حالة تململ يرصدونها في أوساط المجتمع، يحاولون رفع كل الشعارات البراقة والتمسح بكل قضية عادلة كان آخرها قضية فلسطين والمتاجرة بدعم غزة لكنهم ينكشفون في كل مرة.

لدى الحوثيين قائمة طويلة من التهم الجاهزة يضفون عليها بعض التحديثات حسب المستجدات وكان آخرها ما أَضافوه في قضية الشيخ حنتوس أنه يناهض موقف السلطة (يقصدون سلطة الحوثة) الداعم للقضية الفلسطينية وأنه يدعم العدوان، لا أدري كيف يمكن لشخص أعزل في قرية نائية أن يدعم العدوان، لكنها مجرد أكاذيب يسوقونها بذات الطريقة التي كان يؤلفها جدهم يحيى الرسي في القرن الثالث الهجري حين كان يؤلب المغفلين من القبايل الذين دلس عليهم بأكاذيبه، لمداهمة قرية أو بلدة رفضت أن تدين له بالولاء وكان يتكرر كثيراً زن يلصق بهم تهماً أخلاقية من قبيل المجاهرة باللواط والزنا كما جاء في سيرته التي كتبها أحد مقربيه.


يدرك الحوثيون نفاد صبر الناس وبالتالي يتعاملون بتشكك مع الجميع، ومنذ أمس يخوضون معركة مفتوحة من طرف واحد في محافظة إب يستهدفون فيها النخب وينفذون حملة اعتقالات طالت العشرات من الأكاديميين والوجهاء، ممن يشكون مجرد شك أنهم لا يوالونهم بشكل كامل. ولديهم معاييرهم الخاصة للولاء:
أنت لا تردد الصرخة فأنت مشكوك فيك
أنت لا تحضر فعالياتهم ولا تحشد لها فأنت محل تقصي وملاحظة.
أنت لم تحضر دورة ثقافية فأنت عدو محتمل ومصنف ضمن الخلايا النائمة.
أنت لا تدفع مجهود حربي ولا تبادر لدعم القوة الصاروخية فأنت عدو للمسيرة.
أنت لم ترسل أولادك للجبهات ولا دورات تدريب فأنت متهم بالتحريض ضد المسيرة.
أنت تعترض على فساد وعنجهية نافذيهم وترفض الجبايات والإبتزاز فأنت تهدد الأمن والإستقرار.
أنت تطالب بالراتب وتشكو ما وصل اليه الناس من ضيق الحال فأنت مرجف ومشكك في المنجزات التي تحققها المسيرة و"السيد".
أما إذا تجاوزت وصرت تتحدث في المجالس وتشكك في مفاهيم الولاية والاصطفاء وما ترتب عليها من امتيازات فأنت ناصبي وعدو مبين ولا بد أن يطالك التأديب المباشر.

ذلك هو حالهم، ومن خلال متابعة ما يبثه إعلامهم وتغريدات ناشطيهم على منصات التواصل تشعر أنهم يعيشون حالة استنفار متواصلة ويسكنهم هاجس أنهم يعيشون في محيط متربص يبطن لهم العداء، "كمن يتوغل في أرض الأعداء" على حد تعبير الكاتب محمود ياسين، ولهذا يطلقون العنان لقوتهم الباطشة تجاه أقرب حالة ليرعبوا المجتمع، حتى لو لم يكن الشخص بذاته هو المستهدف.

لا يزال الصحفي محمد المياحي يدفع ثمن ما اعتبروه تجاوزاً للخطوط الحمراء لأنه أخضع خطاب زعيم الجماعة للنقد وسفه ما يطرحه من ترهات وحاول إيقاظ المخدرين بفخامة الدعاية والأكاذيب التي يرددها في خطابه كل يوم والذي يبث عبر مكبرات المساجد، ولهذا تعاملوا مع المياحي كعدو مبين ويمعنون في التنكيل به وها هو ذا يقترب من إتمام عامه الأول في معتقلهم.


وعودة إلى الشيخ حنتوس، وبعد الإطلاع على قائمة التهم التي رددها إعلامهم الأمني فقد كان الرجل يدرك ذلك ويدرك أنهم قد حاكوا سيناريو متكامل للتنكيل به لأنه رفض أن يدرس ملازم سيدهم واستمر في تدريس القرآن آيات منزلة دون التدليس على الفتية بما يعتقدونه شرح للقرآن الذي يرون أنه لا يكون مكتملاً مالم يرافقه شرح وتوضيح أعلام الهدى وهم يقصدون بذلك تسويق رؤيتهم للدين كتفسير لآيات الكتاب الحكيم، وتكريس كل ما فيه لتثبيت ولايتهم واختصاصهم الحصري دون غيرهم بالعلم والحكم باعتبارهم المصطفين لوراثته، ذات يوم قالها لي أبو علي الحاكم وأنا أجري معه حواراً صحفياً في منزله بمدينة ضحيان الواقعة في ضواحي مدينة صعدة، عندما استشهد بالآية التي تقول "وأورثنا الكتاب الذين اصطفينا ..." وعندما قاطعته "من المقصود بالذين اصطفينا؟" كانت سبابته تلقائياً تشير إلى صدره قبل أن يكمل تعليقه "الآية واضحة ولا تحتاج إلى شرح فآل البيت هم المصطفون لإتمام حمل الرسالة إلى يوم القيامة".


لا يطيل عمر الحوثة سوى عجز الطرف الآخر وبقائه مسلوب القرار وخارج نطاق الجاهزية، وعاجز حتى اللحظة عن إرسال إشارات أنه قد استعاد عافيته وغادر مربع العجز، أما المجتمع فقد استنفد كل ما لديه من مخزون صبر، وبلغت الحلقوم، وصار بمثابة بركان كامن وقابل للإنفجار في أي لحظة.

 

* (المصدر أونلاين)