في اللحظة التي تُفرغ فيها السلطة من معناها، يتحول الخوف إلى نظام حكم، وتصير أدوات الدولة مجرد امتدادات لنزعة السيطرة العارية. ليس القمع فعلاً طارئاً أو عادياً في بنية الأنظمة الشمولية، بل هو في تصوري شرط وجودها، وضمان بقائها.
ومن هنا، لا يُقاس استقرار السلطة بعدد البنادق التي تُشهرها، بل بمدى اتساعها في قلوب الناس كفكرة شرعية وضرورية. وعندما تفقد هذه الفكرة، تبدأ الأجهزة في مطاردة الظلال، وتخشى الكلمة أكثر مما تخشى الرصاصة.
في اليمن، حيث تتجرد الجماعة الحوثية يوماً بعد آخر من أيّ مظهر لدولة ممكنة، لا تعود الاعتقالات حدثاً أمنياً، بل دلالة وجودية على نظام مأزوم، يرى في كل رأي مختلف نذيراً بسقوط محتوم. هكذا يتحوّل القول البسيط إلى تهديد، والانتماء إلى ضمير مستقل إلى جريمة. وليس ما يحدث في إب سوى عيّنة متكررة من مشهد أكبر: لحظة تقاوم فيها الميليشيا يقظة المجتمع، لا بقوة الحجة، بل بعنف الأجهزة.
أعتقد أن السلطة حين تتحول إلى أداة قمعية، تفقد كل معنى للدولة. وما يجري اليوم في إب، كما في صنعاء وذمار وحجة، ليس سوى تعبير فجّ عن حالة ذعر تعيشها الميليشيا الحوثية، إذ تدفعها هشاشتها الداخلية إلى أن تُطلق آلة القمع ضد كل ما يُشبه الوعي، وكل من يجرؤ على التفكير خارج سرديّتها. الأكاديميون، الأطباء، الموظفون، والعاملون في المجال الإنساني باتوا أهدافاً لحملة اعتقالات مسعورة لا تستند إلى قانون ولا تُبرّرها تهمة، سوى أن الكلمة - في عُرف الجماعة - صارت تهديداً أمنياً.
لا يحتاج القامع في اعتقادي إلى منطق، بل إلى خوف يعمّ، وإلى صمت يتواطأ. لذلك، لا تكون المفارقة محض صدفة حين تعتقل الجماعة الحوثية مدير جمعية تُعرف بدعمها للقضية الفلسطينية، بينما هي نفسها تتوارى خلف قناع “نصرة الأقصى”. هذه ليست مجرد ازدواجية، بل تعرية كاملة لمشروع يقوم على استخدام كل القضايا العادلة كغطاء لتبرير الظلم وممارسة الاستبداد.
أن يُنشئ الحوثي جهازاً أمنياً جديداً بقيادة نجل المؤسس حسين الحوثي، فهذا ليس توسعاً مؤسسياً بقدر ما هو تأكيد إضافي على طغيان العائلة وتحولها إلى بنية مخابراتية مغلقة، تتعامل مع المجتمع لا بوصفه شريكاً في المصير، بل تهديداً محتملاً يجب تحييده أو سحقه.
إنّ مواجهة هذا الانحدار ليست مجرد رد فعل سياسي، بل ضرورة أخلاقية ووطنية. فالخضوع هنا لا يعني فقط الإذعان لحكم سلالي فاشي، بل القبول بانهيار المعنى ذاته؛ معنى الإنسان، ومعنى الحرية، ومعنى الدولة. لذلك، لا بد من المواجهة، لا لأنها خيار، بل لأنها المصير.
* (المصدر أونلاين)