كشفت جريمة اغتيال افتهان المشهري وما تبعها من تحرك شعبي عن الحس العالي لدى سكان مدينة تعز ضد الجريمة وضد تقصير مؤسسات الدولة في واجباتها ورفضهم لأي تجاوزات تخل بالأمن والاستقرار في المدينة، على عكس مدن أخرى شهدت عشرات الاغتيالات ومرت الحوادث دون أن تشهد أي تحرك.
وفي الجانب الآخر من الصورة فقد كشفت عن حقيقة مفادها أن طابوراً طويلاً من أصحاب الأجندات والضغائن قد اعتبروها مناسبة ذهبية للتحرك والإستغلال للنيل من وحدات الجيش والأمن في تعز التي تضحي منذ 11 عاماً دفاعاً عن المدينة ضد مليشيا الحوثي التي لا تزال تتربص على أطرافها وتنتظر اللحظة المناسبة للإنقضاض عليها.
اغتيال افتهان المشهري جريمة بشعة ومدانة استفزت كل ضمير حي وتداعت لإدانتها كل القوى السياسية والمدنية واستفزت الناس أكثر من أي حادثة غيرها لكونها جريمة اغتيال طالت امرأة أولاً ولكونها موظفة مدنية عزلاء، كما أن ما استفز أكثر في الموضوع هو أن الضحية قد تلقت تهديدات مسبقة، وتعرضت للتهجم في واقعة مشهودة أبلغت عنها أجهزة الأمن في حينه، وهذه المقدمات كانت كفيلة بعدم حدوث الجريمة في حال تحركت أجهزة الأمن والجيش لتعقب المتهمين وضبطهم. كما أن الجريمة جاءت امتداداً لحالة من البلطجة والتعدي على القانون يرتكبها أفراد ومجاميع لم تضبطهم الأجهزة الأمنية لأسباب عدة منها ارتباطهم بنافذين يوفرون لهم غطاءً للتحرك أو لخلل في تركيبة الجيش الذي تم فيه دمج مجاميع المقاومة ببنية الجيش دون أن يتم التمحيص في هوية المنضمين وارتباطهم بماضي إجرامي. أيضاً البنية المعقدة لبعض الوحدات التي صبغت بصبغة مناطقية إذ أن معظم أفراد الوحدة العسكرية التي سجلت ضدهم اعتداءات وجرائم هم من منطقة أو قبيلة واحدة فتحولت هذه الوحدة إلى شكل هجين من التكوين المناطقي أو القبلي الذي يحمل اسم الجيش ويرتدي بزته العسكرية ويتحرك تحت غطائه.
هذه التشوهات التي تكونت في ظل حالة حرب واستنزاف طويل تخوضها المدينة بحاجة لوقفة جادة وإصلاح عاجل، بل كان يفترض أن تكون قد تمت معالجتها دون انتظار حدوث جريمة بهذه البشاعة.
وهنا يمكن القول إن الضغط الشعبي والمدني يساعد المعنيين للقيام بواجبهم لمعالجة هذه الاختلالات وإزالة التشوهات التي تسيء لتضحيات الأبطال وتسيء لسمعة الجيش والأمن.
وعودة إلى مجاميع المستثمرين الذين خرجوا من جحورهم للإستثمار في الدم وتوظيف هذه القضية للنيل من تعز ومقاومتها وجيشها وأجهزتها الأمنية فإن كثيرين منهم تاريخهم لا يؤهلهم لهذا الموقف بل كان بعضهم إلى الأمس القريب جزءً من آلة الحرب التي أدمت صدر المدينة وقتلت الآلاف من سكانها وضربت عليها حصاراً لا يزال مستمراً إلى اليوم، إذ كيف للقناص أن يتحول فجأة إلى ناشط حقوقي أو داعية مدينة وتحديث. والبعض الآخر كانوا ضمن كتائب التشفي والتضليل وتقديم خدمات لوجستية للجحافل التي تهاجم المدينة والعمل على طمس جرائمها.
وبالتالي فإن مسارعة هؤلاء الملوثين، وعلى نطاق واسع، للإستثمار في قضية افتهان المشهري لا يقل جرماً عن سفك دمها، يسيء لتضحية امرأة مناضلة مع مدينتها عملت في ظل ظروف صعبة وتحملت الانتقادات القاسية والاتهامات وظلت تواصل مهمتها منطلقة من إيمانها برسالتها وتطلعها لترك بصمة محترمة تثبت أن المرأة اليمنية قوية وقادرة على الحضور في الفضاء العام، متجاوزة كل المخاطر التي تحيط بها والعقبات التي تعترضها.
أما أصحاب الضغائن السياسية والمناطقية فإن تحركهم رغم ما يبدو لهم من وجاهته وكونها مناسبة لتحقيق حضور، إلا أن اعتماد الخطاب التحريضي وتوظيف القضية لوصم كيانات سياسية أو مناطق كاملة ومحاولة تجريمهم دون اعتبار لما يؤدي إليه هذا الخطاب من تعزز للكراهية والعدوات والإنقسامات المجتمعية والبدء بفرز الناس بناء على انتمائهم الجغرافي أو السياسي كونهم مجرمين بالمجمل فإن عاقبة هذا الفعل خطيرة وتصعب من حالة تعافي المجتمع وإبقائه متماسكاً أمام المخاطر التي لا تزال محدقة باليمن وتهدد مصيره.
وبقدر أهمية استمرار جميع القوى المدنية لمواصلة الضغط من أجل ضبط المتورطين ومحاسبة المسؤولين المقصرين وإصلاح الاختلالات وأولها تفكيك البنى والوحدات المشوهة التي تحولت إلى بيئة لما يمكن توصيفه بـ"الجريمة المنظمة"، فإن على من حولوا هذه القضية إلى "فرصة استثمارية" وبادروا لاستغلالها أن يكفوا عن هذا الشغل القذر لأنهم مكشوفون، وإن كان مصاب المدينة في فقدان أحد رموزها قد جعل الناس يتعامون عنهم إلا أن المدينة تعرفهم جيداً وإرشيفها المثخن يحفظ مواقفهم بالصوت والصورة، ويلاحظهم الشارع التعزي حين يظهرون في المواسم والمناسبات مرتدين ثياب النقاء والطهر غير مدركين أن بقع الدم لا تزال عالقة في أيديهم.
* (المصدر أونلاين)