مرّت أكثر من عشرة أعوام على انقلاب ميليشيا الحوثي على الدولة اليمنية في 21 سبتمبر 2014، لكن الخطاب الذي تروّجه الجماعة ما زال يكرّر نفسه بالمفردات ذاتها، دون أن يتغير سوى حجم الدمار الذي خلّفته سياساتها.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه عن “الدولة” و“الهوية الإيمانية” و“السيادة الوطنية”، يعيش اليمنيون أسوأ مراحل تاريخهم من حيث انهيار المؤسسات واستباحة الحقوق وغياب القانون.
مغالطات البخيتي.. تكرار قديم في ثوب جديد
في الأسابيع الأخيرة، نشر القيادي في جماعة الحوثي محمد البخيتي سلسلة مقالات تحت عنوان “مكاشفات”، حاول فيها تقديم رؤية تبرّر سيطرة الجماعة على الدولة ومؤسساتها، وتتهم خصومها بالتآمر على اليمن وتهديد سيادته.
لكن مضمون تلك “المكاشفات”، كما يرى محللون يمنيون، لم يحمل أي جديد، بل أعاد إنتاج الخطاب الحوثي القديم القائم على الخلط بين الشعارات الثورية والدعاوى الدينية لتبرير الانقلاب وتلميع صورة المشروع السلالي.
فالبخيتي، الذي كان من أبرز المدافعين عن اجتياح صنعاء عام 2014، يقدّم نفسه اليوم كـ“حارس الدولة” و“مدافع عن السيادة”، متناسيًا أن جماعته هي من أسقطت مؤسسات الدولة، واحتجزت رئيسها المنتخب، ونهبت البنك المركزي، وألغت الدستور، وأدخلت البلاد في حرب طويلة أنهكت اقتصادها ومجتمعها.
ويرى مراقبون أن البخيتي يحاول من خلال هذا الخطاب إعادة صياغة الرواية الحوثية وإقناع الرأي العام بأن ما جرى لم يكن انقلابًا بل “ثورة تصحيحية”، في وقتٍ تُظهر فيه الوقائع الميدانية والسياسية عكس ذلك تمامًا.
إسقاط الدولة باسم الثورة
يستعيد اليمنيون أحداث سبتمبر 2014 حين سيطرت الميليشيا على العاصمة صنعاء بالقوة، وأسقطت مؤسسات الدولة تحت ذريعة “الثورة الشعبية”.
كانت تلك اللحظة، كما يقول محللون سياسيون، نقطة التحول الأخطر في تاريخ الجمهورية اليمنية، إذ تحوّل “الشعار الثوري” إلى غطاء لمشروع مذهبي مغلق يقوم على التمييز الطبقي والسلالي.
منذ ذلك التاريخ، لم تنشغل الجماعة ببناء دولة القانون، بل بإعادة تشكيلها وفق نموذج طائفي يخدم أجندة إقليمية تقودها طهران.
تحوّل الجهاز الإداري للدولة إلى ذراع مالية وعسكرية للميليشيا، وتحول القضاء والإعلام والتعليم إلى أدوات تعبئة فكرية ودعائية، بينما باتت موارد البلاد تُدار لخدمة حرب طويلة الأمد ضد اليمنيين أنفسهم.
الهوية اليمنية.. من التعدد إلى الإلغاء
من أبرز ملامح المشروع الحوثي – وفق مراقبين – محاولة محو الهوية اليمنية الجامعة واستبدالها بما تسميه الجماعة “الهوية الإيمانية”، وهي صيغة دينية سياسية تُكرّس التفوق العرقي لفئة محددة وتشرعن احتكارها للحكم والسلطة والثروة.
فمنذ سيطرتها على صنعاء، شرعت الميليشيا في تغيير المناهج الدراسية، وإعادة تسمية المدارس والشوارع والمساجد، وإقصاء آلاف المعلمين والخطباء، وفرض الدورات العقائدية الإلزامية على الموظفين مقابل نصف الراتب أو المساعدات الغذائية.
كما دمّرت مراكز لتحفيظ القرآن، وفرضت شعاراتها الطائفية في المساجد، في ما وصفه حقوقيون بـ“الإبادة الثقافية” التي تستهدف ذاكرة اليمنيين وهويتهم الوطنية.
ويرى محللون أن حديث البخيتي عن “حماية الهوية اليمنية” ليس سوى مفارقة ساخرة، إذ تمارس جماعته في الواقع عملية محو شامل للهوية لصالح سردية مذهبية دخيلة على تاريخ اليمن.
السيادة الوطنية.. شعار للاستهلاك وممارسة للتبعية
يكثر الخطاب الحوثي من الحديث عن “السيادة الوطنية”، غير أن الوقائع الميدانية والسياسية تشير إلى ارتهان القرار اليمني لطهران منذ بداية التمرد في صعدة وحتى اليوم.
فالسلاح، والتمويل، والتدريب، والدعاية، جميعها تأتي من إيران وحزب الله اللبناني، في حين يتباهى قادة الحرس الثوري الإيراني علنًا بأن صنعاء أصبحت “العاصمة العربية الرابعة” التابعة لإيران.
تحت هذا الواقع، يصف الحوثيون أي تعاون مع الدول العربية بأنه “عدوان”، بينما يعتبرون الدعم الإيراني “وحدة في الساحات”.
ويقول خبراء إن هذا التناقض يعكس ازدواجية الخطاب الحوثي الذي يستخدم شعارات الاستقلال لتبرير التبعية، ويغلف الارتهان للمشروع الإيراني بستار “المقاومة”.
السلطة المغتصبة.. غياب الشرعية وتكميم الأصوات
تُصر جماعة الحوثي على وصف نفسها بـ“السلطة الشرعية”، رغم عدم وجود أي أساس دستوري أو انتخابي لذلك، وعدم اعتراف أي دولة في العالم بحكمها.
وتحكم الجماعة اليوم عبر القبضة الأمنية، وسلسلة من الاعتقالات والانتهاكات الواسعة ضد الصحفيين والنشطاء والمعارضين، فيما تعيش العاصمة صنعاء ومدن أخرى حالة من التكميم والخوف الدائم.
يرى مراقبون أن الحوثيين “استبدلوا صندوق الاقتراع بفوهة البندقية”، وأن ما يسمى بالحشود الجماهيرية التي تنظمها الجماعة ليست دليلًا على الشعبية بقدر ما هي استعراض قسري للقوة في وجه مجتمع مقموع ومحروم.
من شعار الثورة إلى واقع الكهنوت
خلال عقد كامل، أثبتت التجربة أن جماعة الحوثي لم تكن تحمل مشروع دولة، بل مشروع سلطة مغلقة تستند إلى مبدأ “الحق الإلهي”، وتستمد شرعيتها من سلالة لا من الشعب.
فالانقلاب الذي بدأ بشعارات “العدالة” و“الاستقلال” انتهى إلى نظام قائم على الجبايات، والإقصاء، وتوريث المناصب والامتيازات داخل الأسرة الحوثية.
وبينما تحوّل اليمن إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، يواصل قادة الميليشيا التحدث باسم “الثورة” و“السيادة”، في مشهد يتناقض كليًا مع واقع الناس ومعايير الدولة الحديثة.
معركة وعي وهوية
المعركة التي يخوضها اليمنيون اليوم لم تعد سياسية فحسب، بل معركة وعي وهوية بين مشروع جمهوري يؤمن بالمواطنة والدولة، ومشروع إمامي سلالي يرى الحكم إرثًا مقدسًا.
فما يكتبه البخيتي وما تروجه قيادات الحوثيين ليس سوى محاولة يائسة لإعادة تدوير خطاب مهترئ، بينما الواقع يقول إن من دمّر الدولة لا يمكنه أن يتحدث باسمها، ومن ارتهن للخارج لا يملك أن يدّعي السيادة.
ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن لبلدٍ يتطلع للحرية والمواطنة أن يقبل بحكمٍ يقوم على خرافة “الولاية”؟ أم أن وعي اليمنيين كفيل بإسقاط هذا المشروع كما أسقطوا كل أشكال الاستعباد من قبل؟