في صباحٍ بدا أقرب إلى مشهد أسطوري منه إلى يومٍ عادي، استفاقت منطقة السمسرة جنوب غرب تعز على فاجعة طبيعية مؤلمة: انشقاق "شجرة الغريب"، التي تعد أقدم معلم طبيعي حي في اليمن، وسقوط جزء من جذعها الضخم، في مشهدٍ هزّ أحاسيس اليمنيين، لاسيما أولئك الذي مروا من جوارها أو كانت محطتهم يوما ما.
شجرة الغريب، المعروفة علميًا باسم Adansonia digitata، ومحليًا باسم "الكولهمة"، لم تكن مجرد شجرة تقف في أطراف الشمايتين، بل كانت ذاكرة خضراء تقاوم النسيان منذ ما يزيد عن ألفي عام، بارتفاع يصل إلى 16 مترًا ومحيط جذع يتجاوز 35 مترًا.
على مدى قرون، صمدت شجرة الغريب في وجه الزمان، قاومت موجات الجفاف والتحولات المناخية وتبدّل الأجيال، محتفظةً بجذعٍ ضخم كمستودعٍ للماء وملاذٍ للظل والحكايات. لكن ما لم تقدر عليه الطبيعة، يبدو أن الإهمال والعبث البشري قد تمكنا منه في لحظة غفلة.
لم تكن شجرة الغريب غائبة عن مدوّنات التاريخ؛ فقد ذُكرت لأول مرة في كتاب صفة جزيرة العرب للمؤرخ والجغرافي اليمني الشهير أبو محمد الحسن الهمداني، الذي أشار إليها قبل أكثر من 1200 عام، واصفًا إياها بقوله: "اسمها شجرة الكلهمة، وهي شجرة معمّرة وضخمة، يستظل تحتها مئة رجل".
كما حضرت الشجرة في الأدب، حيث وصفها الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى بـ"حارس الدهر" في قصيدته على أسوار شجرة الغريب.
ولعل حجمها الضخم، وشكلها المميز بذلك الجذع الكبير، جعلها مقصداً هاماً لأولئك السائحين القادمين من مختلف مناطق البلاد ومن دول خارجية أيضا.
إهمال
سقط جزء كبير من جذع الشجرة، محدثًا شقًا عميقًا كشف عن تجويفها الداخلي، وأثار صدمة واسعة في الأوساط المحلية خصوصا تلك البيئية والثقافية. وعلى الفور، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بصور وفيديو الحادثة، مرفقة بموجة من الحزن والسخط، وسط اتهامات للإهمال والتقصير الرسمي، خصوصًا مع غياب أي رعاية أو ري منتظم خلال السنوات الماضية، رغم قيمة الشجرة الرمزية والعلمية.
وفيما لم تُستبعد فرضية التخريب المتعمد، طالب نشطاء ومهتمون بالبيئة بفتح تحقيق عاجل لكشف ملابسات الانشقاق، وتأمين ما تبقى من هذا الكائن النادر. تحيط بالشجرة قصص تتناقلها الألسن في المنطقة كأنها أساطير: يقال إنها تعالج العقم، وإن من يلمسها بنيّة طيبة تُفتح له أبواب الخير.
اليوم، بدت الشجرة ككائنٍ جريح، ممدد في انتظار إسعافٍ تأخر كثيرًا. وكأنها تبكي لا من الانشقاق، بل من خذلان الناس والجهات المعنية، ومن صمتٍ طال أكثر من اللازم.
عقب الحادثة، أُطلقت حملات إلكترونية تدعو إلى تدخل عاجل من وزارة البيئة والسلطات المحلية، تتضمن مطالب بـ: ترميم الشجرة وإنشاء سياج واقٍ، تأهيل محيطها وتحويله إلى محمية بيئية، وإدراج الشجرة ضمن قوائم التراث الطبيعي الوطني.
كما دعا مثقفون ومهتمون إلى إطلاق مشروع توثيقي موسّع يرصد تاريخ الشجرة وموقعها، بهدف حمايتها من مزيد من الإهمال وتكريم ذاكرتها التي تجاوزت الزمان.
في بلدٍ تعصف به الحرب وتتساقط فيه المعالم كما تتساقط الأحلام، شكّلت شجرة الغريب رمزًا لصمود الطبيعة في وجه التهميش. واليوم، مع سقوطها الجزئي، يرتفع السؤال الحتمي: من يحمي ذاكرة الأرض إن تخلّت عنها يد الإنسان؟ ربما لا تزال الشجرة واقفة بجذع مجروح، لكن صوتها بات أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
هذا ما قاله وزير الثقافة السابق خالد الرويشان:
شجرة الغريب فاضَ بها من غباءاتكم...
فَطَرتُم قلبَها فانفَلَقَ وتناثرَ أشلاءً!
لم تستطع أجواء ورياح ووقائع وأهوال ألفي سنة أن تكسر قامتها،
بينما كسرتم قلبها في عشرين سنة!
فَطَرتُم قلوب ثلاثين مليون!
شجرة الغريب في تعز...
حارسة الدهر كما أسماها شاعر العرب الكبير سليمان العيسى.
لقد سالتْ دموعي مراراً وأنا أكتبها لكم الليلة،
وكأنّ هذه الملحمة مرثاةٌ لشجرة الغريب...
مرثاةٌ لبلاد، ومناجاةٌ لشعب،
مرثاةٌ لكل غريبٍ ونادرٍ ونفيسٍ في هذه البلاد!
ما أنتِ؟
حارسةٌ للدهر، أم خبرٌ
يَعرَى ويُورِقُ، لا يُدرى لهُ عُمُرُ؟
ما أنتِ؟
سرٌ من الماضي يطوفُ على
شطِّ الزمان... بجلبابيهِ يأتزرُ،
تغازلين الضحى والليلَ صامتةً،
وحول جذعِكِ يعيا... يسقطُ السفرُ.
ما أنتِ؟
ملحمةٌ غبراءُ آونةً،
وتارةً... يتفيّا ظِلّكِ القمرُ.
بِنتَ الزمانِ... سلاماً!
إنّني تَعِبٌ،
وها مَرافقُكِ السمراءُ تنتظرُ،
آتِيكِ... يحملُني شوقٌ إلى قصصٍ
في هذه الأرض، يفنى حولَها السمرُ.
يا دوحةَ الأزلِ المزروعِ في بلدي،
شعراً وخمراً...
وأستسقي وأعتصِرُ،
وأرتمي أبداً ظمآنَ، محترقاً
على التخومِ... فلا كرمٌ ولا ثمَرُ.
قالوا: "الغريبُ"...
ووجّهنا ركائبنا
إليكِ... كانَ شعاعُ الشمسِ يُحتضَرُ،
وكنتِ تحتَ سكونِ الوَعرِ جاثمةً،
مِلْءَ المهابةِ، يخشى لمْسَكِ القَدَرُ.
لَمْ تنبِسي حينَ حيّيناكِ عن شفَةٍ،
لِمَ الكلامُ؟ يُجيدُ الضجّةَ البشرُ،
وقَفتِ مثلَ عمودِ الفجرِ صامدةً،
هذا كتابُكِ... مفتوحٌ لِمَنْ عَبَروا،
ورُحتُ أقرأُ في صمتٍ،
وعاصفةٌ من الحنينِ... على جنبَيَّ تنفجرُ.
هذي أنا... قلتِ لي:
شمطاءُ... باقيةٌ على العصورِ،
وعندي اللونُ والزَّهَرُ،
عندي الفصولُ - كما أختارُ - عاريةً،
مكسوّةً، عنديَ الأحلامُ والصورُ.
أنا الحياةُ، أنا الأمُّ التي ولَدتْ
تاريخَكُمْ، يزدهي حولي وينكسرُ،
ألُمُّهُ فوقَ جذعي...
مرَّةً ألَقاً،
يسقي الشموسَ، وآناً يخجلُ البصرُ.
ألْفانِ ممّا عددتُمْ عُمْرُ قافيتي،
لَمْ يَتعبِ العُودُ في كفّي ولا الوَتَرُ،
ما زلتُ أغنيةً خضراءَ حاليةً،
في كلّ عامٍ على الآفاقِ أنتشِرُ.
أبي هو اليمنُ التاريخُ، شاهقةٌ،
حولي الذُّرى، وبها أزهو وأنتصرُ.
أُقاتِلُ العَدَمَ الطاغي بأجنحتي،
أُعلِّمُ الناسَ كيف اليأسُ يندحِـرُ.
ووَحدةٌ أنا...
كالأرضِ التي ضَرَبَتْ فيها جذوري،
فَمَنْ حَدُّوا؟ ومَنَ شطَروا؟
خذوا ضفائريَ الخضراءَ من عدنٍ
إلى ذُرى "نُقُمٍ"... في الروعةِ انْصَهِروا.
هذي أنا...
تحتَ أغصاني ابنُ ذي يَزَنٍ
أناخَ يرتاحُ لمّا هَدّهُ السفرُ،
وعَبَّ مِنّيَ وضّاحٌ قصائدَهُ،
فالبِيدُ أُنشودةٌ للحبِّ والحَضَرُ.
الشّعرُ مِلْءُ دمي، ما زلتُ أسفحُهُ،
زهراً وعطراً، تساوى الصحوُ والمطرُ،
توحّدَتْ في ظلالي كُلُّ عابرةٍ
من الرياحِ... تآخى الصفوُ والكدَرُ.
هذي أنا!
وطنٌ باقٍ يؤرّقُهُ
ليلٌ طويلٌ مريرٌ، شَقّهُ سَحَرُ.
هذي أنا... وعلى صدري سأجمَعُكُم
يا مَنْ على نبضةٍ في قلبيَ انشطروا.
بِنتَ الغريب... وفي قيثارتي غُصَصٌ،
أنأى بِهِنَّ عن الشكوى، وتستَعرُ.
ضُمّي إليكِ رمادي... سوف أنثُرُهُ
في كُلِّ وادٍ... إلى أنْ ينبُتَ الشررُ.
الهائمانِ على صحراءِ غُربَتِنا،
أنا وأنتِ...
ألَمْ يعصِفْ بكِ الضجَرُ؟
أما تعِبْتِ؟
بلَى... إنّي على رهَقِي،
طفولةٌ ضاعَ في ألعابها الكِبَرُ.
أُمّاه!
ليس وَداعاً إنْ رفعتُ يدي،
إنّي إليكِ عنِ المأساةِ أَعتذِرُ.
وكتب الناشط فؤاد الحميري:
(شجرة الغريب) وأُمّة الغُربة..
لطالما صفقنا لوقوفها في وجه تقلبات الزمن
وامتدحنا صمودها أمام تغيرات المناخ
لكنها اليوم -ودون سابق إنذار- تنجعف
فكانت (الغريب) في اسمها وحالها ثم في مصيرها ومآلها
وكنا الأغرب في تعجبنا واندهاشنا من انهيارِ صامدٍ لم ندعم صموده بقطرة ماء
أو نسند وقوفه برشة دواء
ظانين أن الثناء بمفرده يفي
والتصفيق وحده يكفي