في خلفية حسابه على واتساب، يظهر عبدالله شاباً أنيقاً، يرتدي جاكيت جينز وساعة أنيقة، ويجلس أمام بناية حديثة في إحدى ضواحي العاصمة المغربية الرباط، خلفية هاتفه توحي بالاستقرار، لكن الواقع حين تواصلنا معه كان مختلفاً تماماً.
روى لنا قصته بصوت خافت: "أعيش منذ أكثر من أربع سنوات هنا في المغرب، بلا صفة قانونية، ولا عمل، ولا حماية.. أسرتي هناك في اليمن تعتقد أنني بخير... لا أستطيع أن أُقلقهم أكثر، هم لا يعرفون أنني أنام أحياناً في الشارع، آكل وجبة واحدة في اليوم أتقاسمها مع أصدقائي، وأن يوم الجمعة مميز بالنسبة لي، فقط لأنني سأقف خارج المسجد وسأجد من يقدم لي وجبة غداء.. ستموت أمي قهراً إن عرفت ذلك!".
ويضيف: "هذا ليس وضعي أنا فقط، العشرات من طالبي اللجوء اليمنيين هنا مثلي، يخفون بؤسهم الحقيقي خلف صور أنيقة على واتساب حفاظاً على مشاعر أسرهم التي هجروها في اليمن، يحرصون على الظهور وكأنهم بخير، بينما يعيشون في النسيان، بلا طعام كافٍ، ولا مأوى، ولا أي ضمانة لمستقبل آمن".
يقدّر عدد طالبي اللجوء اليمنيين في المغرب بأكثر من 80 شخصاً، بحسب شهادات عدد منهم، ويعانون جميعاً من تجاهل شبه تام من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بعضهم كانوا طلاباً هناك وقرروا البقاء وطلب اللجوء، وهناك من مرّ برحلات تهريب شاقة عبر دول ليبيا، الجزائر، تونس، مالي، موريتانيا، والبعض ألقي القبض عليه في إحدى تلك الدول أو في "جزر الكناري" والمحيط الأطلسي عموماً، ورحّل إلى المغرب، حاملاً معه جراح الحرب واليأس والفقر والاغتراب.
حول طريقة وصوله يقول "الصهيبي" وهو واحد من ثمانية أشخاص تحدث محرر "المصدر أونلاين" إليهم: "سافرت من اليمن إلى السودان، ثم ليبيا، حيث اعتُقلت وعُذبت لأشهر من قبل جماعات، وعشت في ظروف صعبة للغاية، قبل أن أُرحَّل إلى تونس وهناك قدمت طلب لجوء في مفوضية اللاجئين، وحاولت التهرب مراراً عبر البحر الى أوروبا، ولم أنجح. وبعدها سحبت ملفي من المفوضية في تونس وسافرت إلى المغرب، ظننت أن الوضع سيكون أفضل، لكن منذ عامين وأنا أنتظر مقابلة التسجيل، ولم أحصل حتى على صفة لاجئ".
إلى ذلك يروي شاب آخر قصته منذ مغادرته اليمن أواخر 2022 بحثاً عن الأمان في مصر، لكنه اصطدم بواقع معيشي قاسٍ، قال: "تكلمت مع عائلتي فقررت بيع منزلنا الصغير لمساعدتي في الرحلة"، واتخذ من تشاد نقطة انطلاق نحو "الجنة الموعودة" في أوروبا، وبدأ رحلته من النيجر مروراً بالجزائر وصولاً إلى الحدود المغربية، وهناك تلقى صدمة قاسية.
يقول: "تعرضت لاعتداء همجي من حرس الحدود الجزائري، أصابني في رأسي وتسبب لي بنزيف داخلي"، مشيراً إلى أنه لم يكن يدرك في البداية خطورة وضعه، لكن الألم في رأسه كان يتزايد.
ويضيف: "عدت إلى الجزائر طلباً للنجاة، وكنت خائفاً من المستشفيات حتى لا يقبض علي فيها وأرحّل، ونصحني أحد الأشخاص بأخذ مسكنات والبقاء مختفياً، إلى أن قررت التوجه إلى نيامي، عاصمة النيجر، حيث أجريت عملية جراحية بعد اكتشاف أن إصابتي في الرأس كانت بالغة، وتسببت في فقدان للسمع وتأثر في النظر".
لم تكن المعاناة الجسدية عابرة، وفق ما يرويه الشاب، بل رافقته حتى بعد خروجه من المستشفى، يقول: "أعاني حتى الآن من قلة النوم وحالات فزع ليلي، ولا أستطيع الوقوف تحت الشمس لفترة طويلة دون أن أفقد الوعي".
لكن ومع انعدام الخيارات، قرر الشاب مواصلة الطريق إلى موريتانيا، ومنها إلى أوروبا كما كان يخطط، لكنه بدأ فصلاً جديداً من المعاناة، ففي في مارس 2023، تم القبض عليه في مالي، يقول "عانيت من التعذيب والضرب من قبل الجنود والسجناء على حد سواء، وأُجبرت على العمل بالمجان، من تنظيف السجن إلى طهي الطعام، وتعرضت للتحرش".
ورغم أنه لم يكن يتحدث لغة البلد، حُكم عليه بالإعدام في واحدة من أكثر التجارب إيلاماً، يقول: "كنت أعيش كعبد، أعمل فقط من أجل لقمة آكلها، وأتمنى الموت كل يوم، وظليت على هذه الحال حتى نهاية 2024"، حين تدخلت سفارة إحدى الدول العربية وساهمت في إطلاق سراحه.
بعد إطلاق سراحه، عاد الشاب إلى موريتانيا، وهناك لجأ إلى خيار يائس: عبور البحر نحو جزر الكناري، وفي المحيط، "تعطل محرك القارب قبالة الداخلة (مدينة مغربية على المحيط)، وبقينا ثلاثة أيام في عرض البحر دون طعام أو أمل، حتى أنقذنا صياد مغربي".
نُقل بعدها إلى مركز إيواء في "بئر كندوز (تتبع الداخلة وتقع بالقرب من الحدود الموريتانية)"، ثم إلى الرباط، حيث تقدم بطلب لجوء لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لكنه اصطدم بإهمال جديد، يقول: "لم أجد أي اهتمام. بعد كل ما مررت به، شعرت أن معاناتي لا تعني شيئاً لأحد".
وهذا ما يعانيه عشرات الشباب اليمنيين الذين يصلون إلى المغرب ولا يجدون أي رعاية أو اعتراف رسمي، رغم تقديمهم طلبات لجوء، بعضهم قضى سنوات في الانتظار، وما يزال يحلم بالحصول على "صفة لاجئ"، وهي الحد الأدنى الذي يؤهلهم لتقديم طلب إعادة توطين في بلد ثالث.
أحدهم استعاد مشهداً من مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، وقال ساخراً: "أتمنى فقط أن أخرج يوماً لأصرخ مثل ذاك الفلسطيني: هلأ صرت لاجئ رسمي!".
وبحسب عدد من طالبي اللجوء اليمنيين الذين تحدثنا إليهم فإن تعامل السلطات المغربية معهم جيد، فهي لا تلاحقهم أو تهينهم، لكن، في المقابل، لا تُمنح لهم أي حقوق خاصة باللاجئين، لا فرص عمل قانونية، ولا دعم للسكن أو الرعاية الصحية، ومن يعثر على عمل، يكون في الغالب ضمن الأعمال الشاقة كالبناء والمطاعم، وغالباً دون عقود أو ضمانات.
وحالياً يعيش طالبو اللجوء اليمنيين أوضاعاً إنسانية صعبة بعد أن تقطّعت بهم السبل، وتوقفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن تقديم أي دعم لهم، فيما يُمنعون من العمل القانوني ولا يحصلون على أي حماية أو متابعة قانونية.
عبدالله، اسم مستعار لواحد ممن حالفهم الحظ وحصل بعد ثلاث سنوات من المتابعة المستمرة على صفة لاجئ، يقول إنه كان يحصل إلى جانب عدد محدود جداً من طالبي اللجوء اليمنيين على مساعدات من المفوضية تصل إلى نحو 80 دولاراً غير أنها تقلصت في يونيو إلى نحو 50 دولاراً فقط ولعدد أقل، قيل لهم إن ذلك نتيجة شح التمويل الدولي وقيود ترمب، أما معظم اليمنيين الآخرين فلا يحصلون على شيء.
ويتهم طالبو اللجوء الذين تحدثنا إليهم المفوضية بالتجاهل التام لمطالبهم، ولا ترد عليهم رغم الاتصالات والمناشدات والوقفات الاحتجاجية التي ينفذونها أمام مقر المفوضية، وآخرها يوم الخميس الماضي، حين وقف نحو 20 شخصاً منهم، ولم يتلقوا أي رد، ولم يخرج لهم أحد من المفوضية ليتحدث إليهم، كما أن محامي المفوضية الموكل بهم يرفض الرد على اتصالاتهم، ويغلق هاتفه بمجرد أن يعرف أن المتصل يمني، كما يقول عدنان المشولي، وهو أحد من تحدثنا إليهم.
من جهته عبر "ن، ي"، عن يأسه من حاله في المغرب، وقال إنه يفكر في إحراق نفسه أمام المفوضية إذا استمر هذا التجاهل، في ظل غياب أي نوع من الحماية أو المساعدة أو حتى الاعتراف القانوني. وأضاف: "صدقني أنوي فعل ذلك قريباً، نحن بلا أكل ولا شرب ولا مأوى، ولا نقدر على العودة، ولا على الاستمرار هكذا"، مشيراً إلى أن هذا الحال دفع معظمهم إلى خوض مغامرات محفوفة بالموت عبر البحر إلى أوروبا.
وقال الصهيبي: "أنا حاولت التهرب من تونس سابقاً أربع مرات، وتحطم قاربنا مرة وانقلب أخرى وألقي القبض علينا مرتان وأعِدنا، وحاولت من هنا من المغرب أكثر من سبع مرات، من بينها مرات حاولت فيها قطع المسافة إلى إسبانيا سباحة (نحو 14 كم في أقصر مسافة لها)، ومات أشخاص الى جواري، وأنقذ آخرون من قبل خفر السواحل أو من الصيادين، ومرات أعدنا من الساحل الإسباني من سبتة، وفي كل مرة نعاد إلى أقصى منطقة في المغرب، ونحن بلا مال، نحتاج بعدها لفترات طويلة حتى نتمكن من العودة إلى الرباط".
اللاجئون الذين تحدثنا إليهم قالوا إن المفوضية تمارس "تمييزا واضحا" ضدهم كيمنيين مقارنة بلاجئين من دول أخرى: "نراهم يحصلون على دعم مادي، وحماية، والكثير منهم يُعاد توطينه في بلد ثالث، أما نحن فلا شيء، لا يردون علينا حتى".
وأشار أحدهم إلى أنه تقدم بطلب لجوء إلى المفوضية منذ خمس سنوات، دون أن يتلقى أي رد رسمي حتى الآن، رغم تقديمه كل الأوراق المطلوبة، وتحديث ملفه مراراً، آخر قال إنه انتظر ثلاث سنوات قبل أن يتلقى رداً مفاده أن "طلبك غير مستوفٍ لمعايير الحماية".
ويحلم هؤلاء في الحصول على صفة لاجئ كخطوة أولى على أمل أن يصلوا بعدها في يوم إلى توطينهم في بلد ثالث، فـ"المغرب ليس بلد مناسب للهجرة فالفرص فيها قليلة" كما يقولون، ولذلك فهم لا يحاولون البحث عن الإقامة الدائمة فيها لأنها ستعيق مشروع اللجوء خاصتهم، لكنهم لم يحصلوا حتى الآن على صفة لاجئ، فيما إعادة التوطين أمر أبعد من ذلك بكثير.
ووفق موقع المفوضية بالمغرب فإن أقل من 1% فقط من اللاجئين حول العالم يحصلون على فرصة لإعادة التوطين في بلد ثالث، بعد اجتياز مقابلات صارمة واشتراطات متعددة تتعلق بالتأهيل والقدرة على مواكبة معايير واشتراطات البلدان التي تستقبل اللاجئين.
"المصدر أونلاين" وجّه أسئلة مكتوبة عبر البريد الإلكتروني إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالمغرب، تضمنت استفسارات حول أوضاع طالبي اللجوء اليمنيين، والمساعدات المقدمة، وسير عملية البتّ في طلباتهم، غير أن المفوضية لم ترد على الأسئلة حتى لحظة نشر هذا التقرير، رغم مرور أكثر من أسبوع على إرسالها.
وخلال حديثنا إليهم عبر أحد طالبي اللجوء عن استيائه من دور السفارة اليمنية بالمغرب، والتي قال إنها لا ترد عليهم ولم تقم بدور في مساعدتهم، وبدورنا نقلنا تلك الاتهامات إلى سفير اليمن بالمغرب عز الدين الأصبحي، والذي رد بأن السفارة ترد على كل من تواصل بها، مضيفاً: "يمكنك أن تخدمهم وترسل طلباتهم مباشرة الى هنا للرد عليها، وتقديم أي عون حسب القانون".
وحول طالبي اللجوء، قال السفير الأصبحي لـ "المصدر أونلاين": ليس للسفارة علاقة بطلبات لدى مفوضية اللاجئين، بل يمنع القانون ذلك.. ومن المستحيل أن تخاطب السفارة المفوضية حول طالب لجوء، وهذه قواعد قانونية".
ويضيف: "قواعد اللجوء محمية، والملف ومعلومات طلب اللجوء تكون سرية، وقانوناً المفوضية لا يمكنها أن تتواصل أو السفارة،... إذا حدث تواصل ففي حالة شخص يريد العودة لليمن، ويتواصل من أجل تسهيل مروره للعودة".
وبين واقع الانتظار المجهول، ومخاطر البحر المفتوح، يبقى طالبو اللجوء اليمنيون في المغرب عالقين بلا وطن، وفيما تواصل المفوضية صمتها، لا يبقى لهؤلاء سوى صور مضللة على "الواتساب" يطمئنون بها من خلفهم، وبحر فاغر فاه استعداداً لابتلاع المزيد منهم.