منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، تبرز بعض التغيرات على الأساليب التقليدية للحصار العسكري الصارم والتجويع وأصناف الإبادة المباشرة، من أجل استكمال مخططات الاحتلال الإسرائيلي في إخضاع المواطنين في قطاع غزة.
وتعزز سياسات الاحتلال في نسختها المحدثة البيئة القاتلة والطاردة بهدف التهجير وفرض الاستسلام تحت وطأة التجويع عبر إدارة المساعدات، والتحكّم بالسوق، واحتكار المواد الأساسية.
وما يجذب الانتباه هو أن عشرات الشاحنات التي دخلت غزة مؤخرا ورُصدت وهي تمرّ عبر المناطق المكتظة بالسكان من دون تنسيق أمني فعلي يُمكن ملاحظته، قد تعرضت للنهب.
وفي الوقت نفسه، تتسرب معلومات عن دخول مؤسسات جديدة تعمل تحت إشراف الاحتلال أو جهات إقليمية كصندوق إغاثة غزة "سيئ السمعة" (GHF) -الذي ورد أنه كان يعد لإنشاء 20 مركز توزيع على طول "الخط الأصفر" داخل القطاع- مما يعني عمليا وجود خطة منظمة لتحويل القطاع إلى "حظيرة بشرية" يُدار فيها السكان بواسطة مساعدات، بلا أفق حقيقي للحياة أو الإعمار.
تكشف الأرقام أن تدفق المساعدات إلى غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار لم يأت في سياق الاستجابة الإنسانية، بقدر ما يعكس استمرار نمط "الإدارة بالتحكم" ضمن سياسة الاحتلال للتهرب من تنفيذ المطلوب منه وفق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ودخلت القطاع بين 10 و31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي 3203 شاحنات فقط، منها 639 شاحنة تجارية و2564 شاحنة مساعدات، بحسب تقرير إحصائي نشره مكتب الإعلام الحكومي بغزة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
بينما تشير التقديرات إلى أن 600 شاحنة يوميا كان ينبغي أن تعبر وفق التفاهمات الدولية، أي أن الاحتلال التزم بنسبة 24% فقط من الكميات المفترضة.
كما لم يسمح الاحتلال إلا بدخول نحو 10% فقط من كميات الوقود المطلوبة، أي ما يقارب 115 شاحنة من أصل أكثر من 1100، وهو تقييد يعكس سياسة خنق اقتصادي مدروسة تهدف إلى إخضاع ناعم بدلا من التدمير الكامل.
وأكدت مصادر محلية -طلبت عدم الكشف عنها- للجزيرة نت أن الاحتلال فرض موزعا بعينه للغاز والبترول، وتضيف المصادر أن هذا الموزع اشترط الحصول على حمولة 1200 ليتر من غاز الطهي لكل نقلة بدل مصاريف تشغيلية وعجز، وهي كمية تباع تحت تصرف محطاته.
وعزز ذلك السوق السوداء بشكل كبير في ظل ندرة دخول الغاز والمحروقات، والتي تراجعت إلى نحو 3 شاحنات لغاز الطهي فقط بما مجموعه 60 طنا فقط.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، أُدخل منذ بدء وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر/تشرين الأول نحو 280 شاحنة تحمل 3 آلاف طن متري من المواد الغذائية، قبل أن يرتفع الرقم في 22 أكتوبر/تشرين الأول إلى 6700 طن متري، تكفي فقط لنصف مليون شخص لمدة أسبوعين، رغم أن حاجة القطاع اليومية تقدر بنحو ألفي طن.
ووفق تقديرات أممية، يحتاج قطاع غزة شهريا ما بين 14 ألفا و500 و16 ألف طن من الطحين، و3700 طن من السكر، و3330 طنا من الأرز، و2100 طن من الزيوت، و1200 طن من البقوليات.
بيد أن ما يدخل فعليا لا يغطي سوى ثلث تلك الحاجات، لتتحول المساعدات إلى أداة ضبط اجتماعي واقتصادي توزع وفق خرائط السيطرة، وتكرس التبعية بدلا من الإغاثة.
واعتبر مسؤول الدراسات والتخطيط الاقتصادي في وزارة الاقتصاد بغزة الدكتور محمد بربخ، في حديثه للجزيرة نت، أن ما يجري هو إدارة للتجويع، موضحا أن الاحتلال يعطل عمدا عمل منظومة المعابر الفلسطينية ويمنعها من الرقابة والتصنيف، مما يجعل البيانات حول حركة الشاحنات متضاربة وغير شفافة.
وأشار إلى أن بعض الشاحنات التي دخلت بوصفها مساعدات تبين لاحقا أنها شحنات تجارية أخرجت من مخازن المؤسسات الإغاثية، كما يفرض الاحتلال سيطرته الكاملة على أذونات الاستيراد للقطاع التجاري الخاص لتحكمه في المعابر وحصر الاستيراد فقط من تجار إسرائيليين أو من وكلاء لهم في الضفة الغربية والداخل المحتل.
أظهرت تقارير أممية واقتصادية حديثة أن الاحتلال الإسرائيلي نجح خلال العامين الماضيين في تدمير المنظومة الاقتصادية والغذائية في غزة بشكل شبه كامل، عبر ضرب البنية الزراعية والصناعية ومصادر الإنتاج الأساسية.
ففي تقرير مشترك صدر في 26 مايو/أيار 2025، أكدت منظمة الأغذية والزراعة، بالتعاون مع برنامج الأقمار الصناعية "يونوسات" (UNOSAT)، أن أقل من 5% من أراضي غزة الزراعية بقيت صالحة للاستخدام بعد تدمير 82.8% من الآبار والمنشآت الزراعية، واعتبرت أن القطاع الزراعي انهار فعليا تحت وطأة الضربات المتواصلة.
وبالتوازي مع هذا الانهيار الممنهج، بدأت تتشكّل داخل غزة -وفق توصيف مقررة الأمم المتحدة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي (تقرير مجلس حقوق الإنسان، 3 يوليو/تموز 2025)- طبقة من المنتفعين من "اقتصاد الفوضى"، تضم تجار حرب ووسطاء و"شركات ظل" استفادت من انهيار السوق ومن سياسات الاحتلال التي أعادت هندسة تدفق السلع والمال بما يحقق مصالحها.
وتؤكد منظمة العفو الدولية (أمنستي)، في 18 سبتمبر/أيلول 2025، أن جزءا من هذا "الاقتصاد غير الرسمي" بات مرتبطا بشكل مباشر بالبنية الإسرائيلية لسيطرة الاحتلال على غزة، مما حوّل الاحتياجات الإنسانية إلى مجال للاستثمار والربح والضغط السياسي.
وتكشف وكالة أسوشيتد برس، في 11 يوليو/تموز 2025، جانبا من هذه الفوضى، إذ تؤكد أن حصول السكان على السيولة النقدية بات مرهونا بدفع عمولات تصل إلى 40% للوسطاء، بسبب منع الاحتلال إدخال النقد وحظر تداول فئات ورقية معينة.
ويقول الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب في حديثه للجزيرة نت إن الاحتلال يريد أن يسيطر على كل الأدوات الاقتصادية في غزة في إطار إبقاء سيطرته الأمنية قائمة عبر:
فرض الاحتلال الإسرائيلي تحكماً على المواد الغذائية الأساسية عبر مؤسسات دولية محددة؛ إذ سُمح بدخول الطحين فقط لمؤسسة المطبخ العالمي التي توجهه للمخابز، لكنها لا تلبي كامل احتياجات السكان. وأكدت مصادر محلية للجزيرة نت أن الخبز الناتج لا يوزع بعدالة أو شفافية، بل يذهب لفئات ذات توجه سياسي محدد، ويحرم منه آخرون.
ووفق فايننشال تايمز، فقد احتُجزت عشرات ملايين الدولارات من المساعدات خارج غزة، وأفادت نحو 40 منظمة دولية بأن السلطات الإسرائيلية رفضت 99 طلبا لإدخال مساعدات خلال أول 12 يوماً بعد وقف إطلاق النار، ثلاثة أرباعها بذريعة أن المنظمات "غير مخوّلة" بالعمل في القطاع.
كما فرضت إسرائيل على المنظمات الإنسانية تجديد تسجيلها قبل نهاية العام، وإلا ستفقد تراخيص العمل، ومن بين المتأثرين: أطباء بلا حدود، وأوكسفام، والمجلس النرويجي للاجئين التي أُبلغت بأن تسجيلها "قيد المراجعة" عند طلب إدخال مساعدات.
وقد أوضح رئيس شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أمجد الشوا، للجزيرة نت أن الاحتلال استهدف منظومة العمل الإنساني، وعلى رأسها الأونروا التي حُظر عملها ومنعت مساعداتها -بما فيها 6000 شاحنة محملة بالغذاء والخيام والدواء- من الدخول.
وأضاف أن إسرائيل تضيق على المنظمات الدولية بإجراءات تسجيل جديدة وفحص أمني لموظفيها المحليين، ما يعرضهم للخطر ويعطل العمل الإنساني، ويفتح المجال لبدائل مثل مؤسسة إغاثة غزة الأميركية التي كانت سببا في سقوط آلاف الضحايا قبل وقف إطلاق النار.
وأكد مصدر أمني من وزارة الداخلية في غزة -رفض الكشف عن اسمه- في حديثه للجزيرة نت أن المنظمات الدولية ترفض التعاون مع الشرطة المدنية في غزة، "خصوصا المطبخ العالمي"، لحماية شاحناتها، وذلك منذ وقف إطلاق النار، على خلاف ما كان يحدث سابقا قبل احتلال الجيش الإسرائيلي لرفح في مايو/أيار 2024.
وأضاف أن الشرطة تقوم بالانتشار على المحاور وفي الطرقات، لكن دخول الشاحنات بدون تنسيق مع الشرطة المحلية لحمايتها، وفي مناطق ومفارق مزدحمة جدا، أدّى إلى سرقتها المتكررة من قبل عصابات محلية تتمركز في مناطق قريبة من سيطرة الاحتلال، الذي يستهدف بدوره أي جهة رسمية تسعى لضبط الأمن في هذه المناطق.
كما عمل الاحتلال على حصر دخول المساعدات والمواد الغذائية عبر معبر كرم أبو سالم فقط، وأجبر جميع الشاحنات على تحويل خط سيرها من شارع صلاح الدين وسط قطاع غزة، إلى شارع الرشيد الساحلي المزدحم، ضمن مسارات ومفارق مكتظة بالنازحين، مما يعرّض هذه الشاحنات للسرقة والنهب، خصوصا في المناطق القريبة من سيطرة الجيش الإسرائيلي.
وحذر المختص محمد أبو جياب من أن الاحتلال يعمل على السيطرة على كل ما يدخل إلى غزة بأدوات جديدة غير التي استخدمها خلال الحرب، من بينها:
كل ذلك في سياق التلاعب من الجانب الإسرائيلي في بنود البروتوكول الإنساني الخاص بوقف إطلاق النار.

وهكذا، أدت هذه الفوضى الاقتصادية والإغاثية في قطاع غزة إلى تضرر الأمن الغذائي للمواطنين، وفرض المساعدات المشروطة، حيث تُوزع المواد وفقا للوائح الاحتلال أو عبر الوسطاء المعتمدين، ما يضعف أي مبادرات محلية مستقلة.
ونتج عن ذلك تكريس حالة الجوع كواقع دائم، وتحويل النشاط الاقتصادي إلى "اقتصاد مساعدات توزيع" بدلا من "اقتصاد إنتاج محلي"، الأمر الذي أضعف السلطة المحلية وهمش المؤسسات الفلسطينية، وعزز دور جهات وسيطة -غالبا غير محلية- أصبحت فعليا جزءا من نظام السيطرة والإخضاع للمواطن الغزي.
وحذر المختص نائل عبد الهادي من أن حكومة بنيامين نتنياهو تتفنن في هندسة الأزمات داخل القطاع، لإبقاء السكان في دوامة أزمات متواصلة لا نهاية لها، كنوع من العقوبات الجماعية، وتطبيقا لسياسة خلق بيئة طاردة للسكان تشجع على التهجير الطوعي مستقبلا.
وأشار إلى أن هذا النهج يستهدف أيضا التأثير على الوعي الجمعي للفلسطينيين، ودفعهم إلى العزوف عن العودة للعمل المقاوم أو تأييده. وأصبحت المساعدات أداة إستراتيجية لإدامة التبعية الاقتصادية والسياسية للاحتلال في مرحلة ما بعد الحرب.
المصدر: الجزيرة