في مغرب يوم من ا?يام فبراير، حملتني قدماي ا?لى مخيم الجفينة، ا?كبر مخيم للنازحين في اليمن، حيث يعيش الشاب الجريح (عبدالواسع) في منزل مو?قت مع والده ووالدته وا?خويه.
على باب منزله، استقبلني والده بابتسامة هادي?ة، ودخلت لا?قابل الشاب، كان جالساُ ا?نيقاً في هندامه، يردد ا?ذكار المساء، ثم قام للصلاة، لم يكن في مظهره ما يوحي با?نه يحمل في داخله قصة ا?لم ممتدة منذ سنوات، كان يتحدث بروح قوية وكا?نه لم يفقد شيي?ا.
(عبدالواسع كمال الغرة)، من محافظة ريمة، ا?حد ا?بطال الجيش الوطني، تغيرت حياته لحظة انفجار لغم حوثي عام 2021 ا?ثناء عمله ضمن فريق هندسي لنزع الا?لغام في جبل هيلان، ففقد عينيه ويديه، ولم يتبقَّ له من ا?طرافه سوى بقايا ا?صابع في يده اليمنى.
يتذكر تفاصيل ذلك اليوم قاي?لاً:
"من اللحظة الا?ولى، لم ا?عد ا?شعر با?حدى عيني، وشعرت بلمعان في الا?خرى، لكن الا?طباء ا?كدوا ا?ن لا فاي?دة، فقد خسرتهما معًا. كنت ا?ظن ا?نني سا?رى وجوه ا?هلي من جديد، لكنني ا?دركت ا?نني دخلت عالمًا جديدًا، عالم الظلام."
الخبر كان قاسيًا على ا?سرته، التي سبق ا?ن قدمت شقيقه وعمه شهيدين، فكانت الفاجعة مضاعفة. والداه لم يستوعبا الصدمة بسهولة وخصوصاً والده الذي يعاني من مرض السكر، وا?خواه، ا?حدهما طالب في المرحلة الثانوية والا?خر رجل ا?من، لم يتمكنا من ا?خفاء دموعهما حين را?ياه لا?ول مرة بعد الا?صابة.
ورغم ذلك، لم يتحدث (عبدالواسع) با?سى، بل بروح الجندي الذي لا يزال يرى الوطن بوضوح، حتى وا?ن فقد بصره:
"الجرحى قدموا ا?رواحهم وا?جسادهم لا?جل هذا الوطن، ورعايتهم ليست مِنّة بل واجب، يجب رعايتهم، كما يجب ا?ن تُزال هذه الا?لغام التي زرعتها ميليشيا الحوثي وتهدد مستقبل العباد والبلاد."
وعندما سا?لته عن احتجاج بعض الجرحى ا?مام داي?رة الرعاية في ما?رب، ا?جاب بحكمة: "نعم، وضع الجرحى يحتاج ا?لى مراجعة، وهناك تقصير، وعلى الشرعية القيام بدورها، لكن يجب الحذر من استغلال القضية لمصالح شخصية ا?و سياسية. فالا?مر ا?كبر من ذلك، نحن ضحّينا لا?جل اليمن، ولسنا ورقة بيد ا?حد."
في ظل الظروف الصعبة، يعيش الجريح في منزل بسيط داخل المخيم، مكوّن من ثلاث غرف وحمام، مبني بعضها من البلك وبعضها من الشبكات.
ورغم وضعه، لم يحصل على منزل في ا?حدى المدن السكنية الخاصة بالجرحى، رغم ا?ولوية حالته، ما يثير التساو?لات حول معايير توزيع هذه المساكن. وقد وجّه محافظ ريمة محمد الحوري، رسالة ا?لى الجهات المعنية، تو?كد على ا?ولوية الجريح في ا?ي فرصة للحصول على منزل، لكن ذلك لم يحدث.
يقول بحسرة: "لا ا?دري، تابعتُ كثيرًا، لكن لم يحدث شيء. تنقلي صعب، وحركتي محدودة، وا?خشى ا?ن ا?كون قد صرت منسيًا لدى الجهات المعنية."
يواجه (عبدالواسع) تحديًا ا?خر، حيث يحتاج ا?لى طرف صناعي ليده اليسرى، وهو ما ا?كد الا?طباء ضرورته، ا?لا ا?ن تكلفته الباهظة، التي تصل ا?لى 6000 دولار، تقف عاي?قًا ا?مامه، وقد ا?بدت قيادة المنطقة العسكرية الثالثة استعدادها للمساهمة بجزء من المبلغ، لكنه لا يزال بحاجة ا?لى دعم ا?ضافي ليتمكن من تركيب الطرف واستعادة شيء من استقلاليته.
رغم كل هذه الظروف، لم يسمح (عبدالواسع) لنفسه با?ن يكون ا?سير العجز، بل قرّر ا?ن يعمل، فافتتح مع ا?سرته بقالة صغيرة في المخيم، حيث يقف خلف طاولته، يحفظ ا?ماكن السّلع في ذهنه، ويطلب المساعدة عندما يحتاج ا?ليها.
يقول: "الجلوس بلا عمل مللٌ قاتل، لذلك قررت ا?ن ا?عمل. ا?رتّب السلع في ذهني، وا?ضع كل في?ة من النقود في جيب محدد، وا?تحقق من المبالغ بمساعدة ا?خي ا?و ا?حد ا?قاربي في نهاية اليوم. ا?حيانًا يربكني الا?طفال عندما يغيرون مشترياتهم ا?كثر من مرة، فا?طلب منهم ا?ن يحضروا ا?خوتهم الكبار."
امتلاك رجل كفيف لمتجر وا?دارته بنفسه ليس ا?مرًا شاي?عًا، لكنه يشير ا?لى قيمة عظيمة في المجتمع، حيث لم يحاول ا?حد استغلال وضعه ا?و خداعه كما يو?كد، بل كان الزباي?ن صادقين معه، مما يعكس الا?مانة كنموذج حي في هذا الحي البسيط، يقول عبدالواسع "الحمد لله، لم ا?واجه مشكلة مع ا?حد. الناس هنا طيبون، والجميع يحترم وضعي. لم ا?جد من يغشني، وهذا شيء يجعلني ا?شعر بالا?مان."
ورغم فقدانه للبصر واليدين، لم يتخلَّ (عبدالواسع) عن حلمه في تكوين ا?سرة، تقدم لخطبة فتاة، ويستعد للزفاف بعد رمضان، مو?منًا با?ن الحياة لا تتوقف عند فقدان الا?عضاء، بل بفقدان الا?مل والا?رادة، فيقول: "كل ا?نسان يحتاج ا?لى شريك حياة، ا?لى شخص يسانده ويفهمه. وا?نا، رغم فقداني لعيني ويدَيَّ، لم ا?فقد قلبي وروحي."
ويشير عبدالواسع الى حاجته لبناء غرفة خاصة في محيط المنزل المتواضع، ليحظى ببعض الخصوصية.
غادرت منزل الجريح عبدالواسع بعد حديث طويل، وا?نا ا?رى ا?مامي شابًا لم تكسره الحرب، ولم تهزمه الا?صابة، بل جعلت منه ا?يقونة للصمود والا?رادة.
هو يحتاج ا?لى مساعدة ليكمل علاجه، ولا يقعد وينتظر الإحسان فقط، بل يعمل ليكسب قوته ويبدا? حياته من جديد رغم كل الصعاب، لكن قصته ليست مجرد ما?ساة، بل رسالة ا?مل لكل من يظن ا?ن الحياة تتوقف عند عثرة، وهو لم يرَ النور بعينيه، لكنه ا?ضاء طريقه بعزيمته.