في مشهد بات مألوفا في شوارع القطاع، يسقط فلسطينيون أرضا ويفقدون وعيهم متأثرين بالجوع الشديد الناجم عن سياسة التجويع والحصار الإسرائيليين وإغلاق المعابر..
-المدير العام لـ"صحة غزة": في غزة الجوع لا يقرع الأبواب، بل يسكن البيوت ويأكل من أعمار الناس، ويطحن كرامتهم تحت وطأة النسيان العالمي.
- مواطنون: نبحث فقط عن لقمة تسند أرواحنا والخبز أصبح كالكنز المفقود
في أحد شوارع مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، تجمع عدد من المارة حول سيدة في الخمسين من عمرها بعد أن سقطت أرضا فجأة، ضحية "الجوع" الذي أنهك جسدها وأجساد كافة الفئات العمرية من المواطنين.
وقالت الفلسطينية خلود العرقان (45 عاما) للأناضول، وهي أحد شهود العيان على الواقعة، إن السيدة الضحية "بدأت تتمايل حتى سقطت أرضا، بعدما كانت تمشي بجسد نحيل وخطوات هادئة".
وأضافت أن المارة حاولوا إيقاظها برش القليل من المياه على وجهها، بعدما فقدت وعيها جراء "الجوع الشديد".
ونقلت العرقان عن الضحية قولها، إنها خرجت مدفوعة بحالة من القهر حيث "لم تجد ولو كسرة خبز صغيرة تطعهما لأطفالها الذين يلتوون جوعا".
وتابعت نقلا عنها: "تقول إنها خرجت لتبحث عن الطعام المفقود أصلا في قطاع غزة".
هذا المشهد بات مألوفا في القطاع الفلسطيني وشوارعه الذي دخل شهره الـ22 من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، بينما تتفاقم المجاعة منذ مارس/ آذار الماضي حيث وصلت مؤشراتها إلى مستويات غير مسبوقة.
واليوم، لم يعد بمقدور الفلسطينيين توفير الحد الأدنى من مقومات البقاء، حيث فقد غالبيتهم الدقيق اللازم لصناعة الخبز، بينما ترتفع أسعار الكميات القليلة المتوفرة منه في السوق السوداء، بشكل لا يمكن الفلسطينيين المجوّعين الحصول عليه.
ومنذ 2 مارس 2025، تغلق إسرائيل جميع المعابر مع القطاع وتمنع دخول المساعدات الغذائية والطبية، ما تسبب في تفشي المجاعة داخل القطاع.
- الموت جوعا
وسبق وحذرت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة من "احتمال تعرض مئات المجوّعين الفلسطينيين للموت، عقب تدفق أعداد غير مسبوقة إلى المستشفيات بحالتي إعياء وإجهاد شديدين".
وقالت الوزارة في بيان الجمعة: "أعداد غير مسبوقة من المواطنين المجوعين من كافة الأعمار تصل إلى أقسام الطوارئ في حالة إجهاد وإعياء شديدين".
وحذرت من أن "مئات من الذين نحلت أجسادهم سيكونون ضحية للموت المحتم، نتيجة الجوع وتخطي قدرة أجسادهم على الصمود".
فيما قالت لاحقا في بيان السبت، إن القطاع يمر "بحالة مجاعة فعلية، تتجلى في النقص الحاد بالمواد الغذائية الأساسية، وتفشي سوء التغذية الحاد، وسط عجز تام في الإمكانيات الطبية لعلاج تبعات هذه الكارثة".
وبدوره، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، الجمعة، إن عدد الأطفال الذين توفوا بسبب سوء التغذية ارتفع إلى 69 منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وأضاف أن عدد الوفيات في صفوف الفلسطينيين بسبب نقص الغذاء والدواء ارتفع أيضا إلى 620 شخصا منذ 7 أكتوبر 2023.
وأشار إلى أن 650 ألف طفل معرضون للموت بسبب سوء التغذية والجوع ونقص الغذاء، فيما تواجه نحو 60 ألف سيدة حامل خطرا حقيقيا جراء انعدام الغذاء والرعاية الصحية اللازمة.
- لقمة من أجل البقاء
من جهته، أوضح الفلسطيني أحمد أبو ندى (35 عاما) للأناضول، أن المجاعة وصلت إلى مستويات "غير مسبوقة" في قطاع غزة.
وأشار إلى أنه بشكل شبه يومي، يُفاجأ الفلسطينيون بسقوط أحد المارة سوءا من الأطفال أو المسنين في الطرق، بعدما فقدوا توازنهم.
وتابع: "لم نعد نتحدث عن الطعام الغني بالمواد الغذائية اللازمة للجسد، أو الحليب العلاجي اللازم للأطفال، أو الخضروات التي لم تدخل بيوتنا منذ أشهر طويلة، إنما نبحث فقط عن لقمة تسند أرواحنا".
وحتى تلك "اللقمة"، وفق أبو ندى، "غير موجودة"، لافتا إلى أن "الخبز فقط بات حلم 2.4 مليون فلسطيني بغزة".
- الخبز..الكنز المفقود
وبشكل غير معهود، تداول ناشطون فلسطينيون وشخصيات إعلامية وسياسية وأكاديمية في قطاع غزة، منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بتفاقم المجاعة بشكل لا يحتمل.
من بين هؤلاء، المدير العام لوزارة الصحة بغزة منير البرش، الذي قال في منشور عبر منصة "تلغرام": "في غزة، لم يعد الطعام حقا، بل صار أمنية مؤجلة، تتكرر كل ليلة على شفاه الأمهات، وترتسم في عيون الأطفال الذين ينامون جياعا يحتضنون الهواء بدل الحليب، ويحلمون برغيف خبز كما لو أنه كنز مفقود".
أضاف في منشوره السبت: "في غزة، الجوع لا يقرع الأبواب، بل يسكن البيوت ويأكل من أعمار الناس، ويطحن كرامتهم تحت وطأة النسيان العالمي".
وأكد أن الخبز بات "عملة نادرة في غزة"، بينما لا يشكل حليب الأطفال المفقود غذاء لهم فقط بل "هو وعد بالحياة أجهضه الحصار وصار حلما مستحيلا في فم طفل يحتضر على سرير الطوارئ".
بدوره، قال المعلم الفلسطيني محمود عساف من غزة، في منشور على "فيسبوك" السبت: "لا حديث اليوم في غزة عن الحرب، لا حديث عن الشهداء، ولا حديث عن المستقبل الميت، ولا الواقع المقتول، الجوع هو سيد الأحاديث".
وفي منشور سابق مساء الجمعة، قال عساف: "أعيروني وعيكم، أعيروني صبركم. بالله عليكم، كيف سأنام ليلتي وأولادي يتضورون جوعا؟ ستبقى عيوني شاخصة ترقب تقلبهم وبكاءهم الصامت".
من جانبه، قال الصحفي محمد هنية من غزة، في منشور على صفحته بموقع "فيسبوك" السبت: "صباح الخير من غزة التي أضناها الجوع. هذا الصباح لم يحمل لنا لا رغيفا ولا حتى لقمة نكسر بها وجع الليل".
وتابع: "نمنا جائعين وصحونا على جوع أكبر. لا طحين في الأسواق ولا خبز في البيوت، ولا شيء يمكن تناوله".
وأضاف: "لمن في قلبه ذرة إحساس، غزة كلها تصوم عن الأكل قهرا لا تعبدا".
وفي السياق، لفت المحلل السياسي والحقوقي مصطفى إبراهيم من غزة، في منشور على "فيسبوك" السبت إلى أن "العالم يبدو قد سئم من غزة وأهلها. الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل وما تزال ترتكبها لا تُحصى. وأنه لا جديد يُذكر سوى ما هو أسوأ".
واستكمل قائلا: "وقاحة الصمت صارت جزءا من وقاحة التآمر على الجوعى. الأكاذيب تخنق الأنفاس. ألا تصل صرخات المجوعين؟".
بينما قال الأكاديمي عبد الفتاح عبد ربه، الأستاذ المساعد في العلوم البيئية، بالجامعة الإسلامية بغزة على "فيسبوك" الجمعة: "الجوع ليس مجرد ألم في المعدة، بل انكسار في الروح وامتحان في الصبر والكرامة".
والسبت، وصفت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة المجاعة بـ"الكارثية"، مؤكدة وجود ارتفاع ملحوظ في معدلات الوفيات الناجمة عن الجوع.
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية بغزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 198 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.