منذ عقود ارتبط اليمنيون وجدانياً بالقضية الفلسطينية وكانت جزءً من يومهم بدءً بأهازيج وكلمات تلقى في إذاعة طابور الصباح وانتهاءً بسماع برنامج "صوت فلسطين.. صوت منظمة التحرير الفلسطينية" الذي كانت تبثه إذاعة صنعاء بشكل ثابت كل مساء.
كل ذلك كان قبل ظهور الحوثي بعقود من الزمن، إلا أن هذا الموسم اختلف وتحولت القضية إلى عنوان للحشد والتعبئة وأداة ضبط وولاء تخدم أجندتها الخاصة.
يتمسك اليمنيون بأملٍ بسيط بعد تراجع الحرب في غزة: أن تنتهي دوّامة الوقفات والاحتشاد المفروض. لكن الوقائع على الأرض تقول إن ماكينة التعبئة لدى ميليشيا الحوثي ليست عابرة. إنها منظومة تشغيل كاملة قادرة على تبديل الذريعة والإبقاء على الناس في الساحات، ولو تغيّر الشعار وتبدّل العنوان الإقليمي.
في هذا التقرير نرصد مسار الحشد والتعبئة الذي انتهجته مليشيا الحوثي خلال عامي 2024 و2025 تحت لافتة التضامن مع غزة، وخلال هذين العامين تعلّمت ميليشيا الحوثي كيف تدمج الإشارة المركزية عبر الاتصالات مع ضغط إداري وحوافز وعقوبات وتعليم مسيّس ودعاية مستمرة. النتيجة عملية وبسيطة: تتحول الكلمات إلى أجساد، وتتحول المناسبات إلى جدول ثابت، ويتحوّل الامتناع إلى مخاطرة يدفع ثمنها نقداً أو من حساب سكينة العائلة ومعيشتها ومستقبل أولادها.

لكي نفهم هذا النظام، نبدأ من الميدان. أربع شهادات ميدانية تكشف كيف تُدار الحشود ساعة بساعة. تاجر من ريف إب، مواطن من ريف ذمار، معلّم من قرية في صنعاء، وطالب جامعي في كلية التجارة بجامعة صنعاء.
الاقتصاد يُساق إلى الساحة
يقول "أبو محمد" — اسم مستعار لتاجر من إحدى قرى جنوب مدينة إب، فـلا أحد في مناطق سيطرة الحوثيين يجرؤ على الحديث باسمه الحقيقي ما لم يكن ذلك في إطار يخدم الجماعة — إن الدورة تبدأ برسالة هاتفية مقتضبة تُرسل عبر مختلف شركات الاتصالات المحلية. لكن هذه الرسالة، تكون نتائجها مكلفة، كما يوضح، تعني مباشرةً استئجار سيارات وتكاليف إضافية يتحملها المجتمع المحلي. فالإشعار ليس مجرد معلومة عامة، بل أمر تعبئة فعلي يهبط على كتفي التجار والوجهاء الذين يدفعون من جيوبهم ضريبة الحشد.
لا تتوقف الحلقة عند الرسالة. يضيف "أبو محمد" أن الاتصالات تتوالى من مكاتب المديرية: تجارة، ضرائب، تحسينات، زكاة، وغيرها. كل جهة تريد سيارة محمّلة بالمواطنين وصورة موثقة تُرسل فورا للأشخاص مع السيارة لكل مكتب سيارته الخاصة. هكذا تُحوّل ميليشيا الحوثي الإدارة العامة إلى ذراع تعبئة، والملف الخدمي إلى عصا إجبار.
الاشتراط البصري حاسم في المعادلة. يشرح أبو محمد أن الصور يجب ألا تتشابه وجوهها، وأن ذلك كله "غير الإجباري" لكنه يصبح إجباريا بالنتيجة. فمن اليوم التالي، تتغير المعاملة لمن لم يستجب. الصورة ليست ذكرى؛ إنها إيصالُ ولاءٍ مختوم. والامتناع لا ينسى، بل يُستعاد في نافذة الضريبة والترخيص والخدمة والابتزاز المستمر.
ينهي أبو محمد شهادته بعبارة واضحة: "فرحتنا بتوقف الحرب في غزة لا تقل عن فرحة أهلها، لكن الخشية أن تفتح ميليشيا الحوثي بابا جديدا لاستمرار الحشد". وهنا يتجلى المعنى العميق للتعب: الناس يريدون نهاية للأعباء، لا نهاية للتضامن. يريدون أسبوعا طبيعيا لا تُدار مفاصله من غرفة التعبئة.
يتّسع مشهد "أبو محمد" عندما نرى أثره على أسواق القرى. تتبدّل حركة البيع أيام الدعوات، وتتراكم خسائر الصغار مع كل رحلة قسرية. تُحتسب تكاليف الوقود والصيانة والطعام، ثم تُخصم من هامشٍ ضئيل أصلا. يتحول الواجب المفروض إلى التزام مالي طويل، ويستقر الخوف من "اليوم التالي" كضريبة صامتة.
ويظهر عبء إضافي عند تنظيم القوافل. تُنسّق أسماء السائقين، وتُحدّد نقاط التجمع، وتُوزّع المهام بين التجار والوجهاء. كل ذلك يحدث بسرعة خاطفة بعد رسالة قصيرة. تتشابه السيناريوهات في المديريات، فتغدو القرية مرآة للأخرى. هكذا تتكرس دورة تعبئة قادرة على الاستدعاء المتكرر بلا كلفة تُذكر على الجهاز المنظِّم.

وعود المواطنين
من ريف ذمار، يقدّم مواطنٌ مفتاح الاستدامة. يقول إن محبة فلسطين قديمة في قلوبهم، لكن الحضور المتكرر لم يستمر إلا بعد الوعود. المشرف قال له إن كثرة الوقفات تُقابل بوعود بمكافأتهم بتوزيع مواشي.
تتحول الوعود إلى اقتصادٍ صغير يضبط الولاءات داخل القرية والعائلة. من يحضر أكثر يقترب من المكافأة، ويكتسب كلمة مسموعة لدى المشرفين. ومع الوقت، يتبدل ميزان المكانة في المجلس والبيت. المشاركة لا تُترجم قناعة سياسية بقدر ما تُترجم صفقة نافعة صنعتها ميليشيا الحوثي بمهارة مقصودة.
ويستثمر المشرفون في تنافسٍ صامت بين الأسر. تُقاس المكانة بعدد الصور وعدد الحضور في القافلة. وبغض النظر عن كونها حقيقية أم دعائية تُروى قصص من نال بقرة أو غنمة، فتنتشر عدوى التوقع. يصير للمكافأة سلوكٌ لاحق: من نال اليوم يسعى غدا لتثبيت المكسب. يصبح الحشد "سوق ولاء" تُباع فيه المشاركات مقابل حيواناتٍ ومعوناتٍ صغرى.
ومع تكرار الوعود، تطرأ ظلالُ خيبة حين تتأخر المكافآت أو تُجزّأ. لكن آلة التعبئة لا تتوقف. يجري تدوير الوعود وتلوينها بحوافز موسمية. ينشأ في القرية قاموس جديد للولاء: من حضر أكثر صار "مرور المعاملة" أسهل، ومن تخلّف تعرّض لتأخيرٍ أو تجميدٍ غير معلن. وعلى طبق واحد تقدم عناصر التحفيز مع العقوبات.

الحفاظ على المسمى الوظيفي
في صنعاء، يقدّم "أبو علي"، المدرس، صورة مكثفة للقسر الرمزي الذي يتجاوز اللائحة إلى الكاميرا والوصم وهو النظام الساري على كل الموظفين الحكوميين في كل الوزارات والمكاتب مع فارق طريقة التوثيق. يقول إن الوقفات إلزامية مع تصوير ورفع فيديو يثبت المشاركة. أحيانا يستدين أجرة الطريق. لكنه يذهب على مضض، تحت رعب التهديد بإسقاط الأسماء من قوائم الموظفين، وحتى لا يُعامل المختلف كعميلٍ ومرتزق.
يتابع "أبو علي" ساخرا أنه يتمنى ألا تعود حرب غزة "من شان هم يرتاحوا واحنا نرتاح". ثم يضع قاعدة أخلاقية قاطعة: نحن مع فلسطين، لكن الإجبار على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل. هذا هو جذر المشكلة. ميليشيا الحوثي تلبس القسر عباءةَ القيم، فتجعل الواجب الأخلاقي ميزانَ ولاءٍ سياسي مُوثَّق.
وتتسع دائرة الإلزام لتطال عقود المتعاقدين. تُربط الاستمرارية بـ"حضور مناسب"، وتُقرأ الملاحظات في التقارير الداخلية. يصبح الهاتف دفتر حضورٍ مصوّر، والمجموعة الوظيفية لجنة مراقبة. بين لقطة ولقطة تتشكّل سمعة الموظف وتُبنى عليه قرارات النقل والإجازة والترقية. هكذا تمرر السلطة القسر عبر لغة الأداء.
ويترتب على ذلك أثرٌ نفسي ثقيل. يشعر الموظف أن أي غياب قد يفسَّر عداءً شخصياً لـ"المسيرة" وللمنظومة كاملة. تتلاشى المنطقة الرمادية بين الرأي العام والولاء السياسي. ويسوق الامتناع صاحبه إلى مربع التهمة. ويصبح الامتثال طريق أقل كلفة للسلامة، حتى لو كانت الكلفة ديناً إضافياً أو شعوراً بالغبن يضاعف الأعباء النفسية ويأتي على حساب شعور الشخص بحرية المشاركة في أنشطة اختيارية.
احضر لتنجح
في الجامعة، يروي طالبٌ في كلية التجارة المعادلة المفروضة عليهم: شارك في اثنتي عشرة وقفة وحصل مقابل كل وقفة على درجة. يحضر مندوب كل قسم بكشوفات رسمية، ثم تُرفع إلى العمادة لاعتماد الدرجات. هكذا حولت ميليشيا الحوثي الحضور السياسي إلى جزء من التقييم الأكاديمي.
يتسع نطاق الحوافز أكثر في الساحات المركزية. يشرح الطالب أن الاحتشاد في ميدان السبعين يمنح درجات مضاعفة تصل أحيانا إلى خمس درجات. لكنه يتجنب الذهاب لأن اعتماد الدرجات هناك يتطلب صورا حية من الميدان. الصورة شرط المكافأة، وبدونها لا يُعترف بالحضور لأنه يصعب على المندوبين التحضير هناك وتسجيل الحاضرين. هكذا تُدار النقاط كعملة ولاء.
ويمتد النظام إلى المدارس والمعاهد. تُحتسب نقاط أنشطة "وطنية" على هامش المواد، وتُرفع كشوفات فصلية للمتابعة. يتعلم الطالب باكراً أن الحضور السياسي "مفيد" للمعدل. تتبدل وظيفة النشاط من مساحة تعبيرٍ حر إلى أداة قياس انضباط.
كما تتغيّر مفردات الحرم الجامعي. يصير لمجموعات الواتساب دور ضبط إضافي، وتتحول صور "السيلفي" إلى قرائن اعتماد. تُستبدل النقاشات العلنية بإشاراتٍ خاطفة حول "النقاط".

منظومة متكاملة
تتجمع هذه الخيوط لتكشف دورة تشغيل دقيقة. تبدأ بإشارة مركزية عبر الاتصالات، تنتقل إلى تنفيذ محلي عبر مكاتب المديريات والجامعات والمدارس، وتنتهي بإرسال صور لا تتكرر وجوهها ولا السيارات. على طول الطريق، تُمسك ميليشيا الحوثي بمفاتيح الخدمة، فتجعل الامتناع مكلفا ولو لم تُصدر بذلك قراراً مكتوبا.
الاقتصاد يتحول إلى أداة ضبط. التجار وأصحاب الأعمال يدفعون ثمن الحشد نقدا ووقتا وتعطيلا لأعمالهم. “اليوم التالي” يصبح شعارا خفيا للعقوبة الناعمة: ورقة تتأخر، معاملة تتعثر، تفتيش يشتد. تعلمت المجتمعات بسرعة أن كلفة الرفض أعلى من كلفة الامتثال، وهذه نتيجة أرادتها ميليشيا الحوثي.
الحوافز تحرس الاستدامة، والشرعنة الرمزية تمنح الغطاء. تُربط الحشود بنصرة فلسطين ومواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل. هكذا تُحوّل ميليشيا الحوثي القضية العادلة إلى مظلةِ قسرٍ منهجي، وتُعيد تعريف الامتناع بوصفه اصطفافا مع العدو.
وتتكامل المنظومة إعلاميا. تُضخ اللقطات في القنوات والصفحات، ويُعاد تدويرها مع عناوين تعبويّة موحّدة. يتضخم الحضور بصريا ليخلق "واقعا مُتصوَّرا" يدفع المترددين للحاق بالجمهور. بهذه التقنية، يصبح الأثر أكبر من الحدث، وتتحول اللقطة إلى أداة أمرٍ مستقبلي لا مجرد توثيقٍ للماضي.
هل ينطفئ المحرّك أم تتبدّل الذريعة؟
هل يغيّر تراجع الحرب في غزة هذه الدورة؟ ربما يخف الشحن، لكن المحرك البنيوي جاهز لإعادة التشغيل بذريعة جديدة. ما بُني خلال عامين ليس حملة مؤقتة، بل نظام تعبئة: شبكة إشراف، منابر دينية وإعلامية موحدة، ربط الخدمات بالولاء، ووصل الجامعات والمدارس بضخّ الجماهير. هذا هو الإرث الثقيل.

إن أردنا تعريف "التنفس" عمليا، فالمطلوب قطع الروابط التي ربطتها ميليشيا الحوثي بين العيش والولاء. أن لا يُعاق التاجر إن لم يملأ حافلة ويصوّر الركاب. أن لا تُوزن علامات الطلاب بقدر الصور في الساحات. أن لا يتحول المعلم إلى حامل كاميرا يبرهن وجوده بدل أداء رسالته كمربي ومعلم وقدوة.
ومن دون إصلاح هذه المفاصل، ستجد المنظومة ذريعة بديلة بسرعة. قد تكون موسما دينيا أو أزمة معونة أو توترا عسكرياً مع طرف لن تعجز عن اختراعه. المهم توفّر قصة تُنقل إلى الشارع على شكل واجبٍ أخلاقي معززٍ بامتيازاتٍ صغيرة. حينها تنبعث شبكة الاستدعاء بكامل حيويتها، كأن حرباً على غزة لم تتوقف.
الأثر على المجتمع
الكلفة لا تتوقف عند المال والوقت. هناك كلفة السمعة في القرية والحارة، حين يُعاد ترتيب الناس على سُلّم "مطيع وممتنع". وهناك كلفة تعليمية حين يصبح الحضور السياسي تذكرة لرفع المعدل. وهناك كلفة أخلاقية حين تبرد القيم تحت عصا التهديد. كل ذلك نتيجة سياسة واعية تديرها ميليشيا الحوثي.
وفيما يصدر الحوثي للعالم أن اليمنيين أنه صنع هذه الحالة التضامنية فهو يحاول أن يطمس حقيقة ارتباط اليمنيين بالقضية الفلسطينية منذ عقود من الزمن، ويتجاهل ما قدموه من دعم وإسناد وتضحيات في مختلف المحطات قبل أن يأتي هو ليحول القضية الفلسطينية إلى مناسبة لتعزيز حضوره وإخضاع الجماهير لامتحانات قياس الولاء له لا لفلسطين.
وتترك هذه الكلفة ندوبا خفية في الثقة العامة. تتسع الهوة بين الخطاب المعلن وتجربة الناس اليومية. من يذهب خوفا لا يعود مؤمنا، ومن يربط رزقه بلقطةٍ في ساحة لا يرى في الساحة معنى للفكرة.

مسارات محتملة
بين عبارة أبو محمد "لا يفتحوا لنا باب ثاني" وسخرية "أبو علي" "يرتاحوا ونرتاح" يقف رجاء يمني واضح. لا أحد يطلب إسكات القضايا، بل يطلب تحريرها من قبضة الاستغلال. يريدون أن تبقى فلسطين قيمة تُلهم، لا عصا يلوّح بها على المخالفين.
إن قابلية الحشد لم تُبنَ على شعار واحد. إنها هندسة اجتماعية تُديرها ميليشيا الحوثي عبر مزيجٍ محسوب من الرمز والاقتصاد والإدارة والتصوير. بإمكان الذريعة أن تتغير، لكن المحرك ثابت. وإلى أن يُفكّ هذا المحرك، سيظل الناس يحسبون أيامهم على إيقاع رسالةٍ تأتي وصورةٍ تُرسل.
سيكولوجية الجماهير
ختاما، تكشف الشهادات أن ما جرى في العامين الأخيرين ليس اندفاعة عاطفية عابرة بل "هندسة حشد" تحسن مزج الإيحاء بالعقوبة. وفق منظور "سيكولوجية الجماهير"، تُصنع الطاعة بتكرار الشعار وصناعة الهيبة وتوحيد المنابر، ثم تُثبَّت إداريا عبر ربط الراتب والخدمة والدرجة بالصورة والوقفة. إن تراجع الحرب في غزة لا يكفي وحده لإطفاء هذا المحرك؛ ما لم تُفك الوشائج التي ربطت العيش بالموقف، سيظل قادة الحشد يجدون عنوانا جديدا كلما خفت بريق العنوان القديم.

خاتمة
انقلبت ميليشيا الحوثي على مؤسسات الدولة، وصادرت قرارها وسيادتها، وحوّلت مواردها إلى أدوات قسر وولاء. تحت خطاب "المقاومة"، رسّخت حكما طائفيا قمعيا، وأعادت تشكيل المجتمع بقوائم وصور ونقاط حضور. ليس هذا خلافا سياسيا عابرا، بل نسقُ سيطرةٍ شامل يستولد الذرائع ليبقي الناس رهائن في ساحة لا تنطفئ.
ولأن الانقلاب استهدف الدولة لا الحكومة فحسب، فالردّ لا يكون بتغييرات تجميلية. المطلوب استعادة الدولة كمرجعية جامعة، ما يؤدي إلى فكّ قبضة الميليشيا عن الخدمة والتعليم والإدارة والإعلام. ذلك يعني تفكيك منظومتها المؤسسية والمالية والدعائية، وقبل ذلك كله المنظومة العسكرية والأمنية، وإبطال أدواتها التي تربط الرزق والدرجة بالولاء.